كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و«الْقِسْمُ الثَّانِي» الْمُتَرَهِّبُونَ أَوْقَعَهُمْ فِي الْبِدَعِ غُلُوُّهُمْ وَتَشْدِيدُهُمْ هَؤُلَاءِ اسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ وَهَؤُلَاءِ خَاضُوا كَمَا خَاضَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا أَوْ يُسْرِفُونَ فِي الْمُبَاحَاتِ وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى فَيُنْسِيهِمْ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَيُفْسِدُ حَالَهُمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ كَثِيرًا مِنْهُمْ. وَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ- وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْرِمْ هَذَا؛ بَلْ يَلْتَزِمُونَ أَلَّا يَفْعَلُوهُ إمَّا بِالنَّذْرِ وَإِمَّا بِالْيَمِينِ كَمَا حَرَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ وَالزُّهَّادِ أَشْيَاءَ- يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَلَّا آكُلَ طَعَامًا بِالنَّهَارِ أَبَدًا وَيُعَاهِدُ أَحَدُهُمْ أَلَّا يَأْكُلَ الشَّهْوَةَ الْمُلَائِمَةَ وَيَلْتَزِمَ ذَلِكَ بِقَصْدِهِ وَعَزْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَلَمْ يَنْذِرْ. فَهَذَا يَلْتَزِمُ أَنْ لَا يَشْرَبَ الْمَاءَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَأْكُلَ الْخُبْزَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَشْرَبَ الْفُقَّاعَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ قَطُّ وَهَذَا يَجُبُّ نَفْسَهُ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَنْكِحَ وَلَا يَذْبَحَ. وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا عَلَى سَبِيلِ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ مَأْمُورٌ بِهَا وَكَذَلِكَ قَهْرُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» لَكِنْ الْمُسْلِمَ الْمُتَّبِعَ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَلَا يُسْرِفُ فِي تَنَاوُلِهِ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ أَوْ نِكَاحٍ وَيَقْتَصِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْتَصِدُ فِي الْعِبَادَةِ؛ فَلَا يُحَمِّلُ نَفْسَهُ مَا لَا تُطِيقُ. فَهَذَا تَجِدُهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَاتِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الْهَوَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْمُبْتَدَعَةِ الْوَعِرَةِ الْقَلِيلَةِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي غَالِبُ مَنْ سَلَكَهَا ارْتَدَّ عَلَى حَافِرِهِ وَنَقَضَ عَهْدَهُ وَلَمْ يَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يُثَابُ عَلَى سُلُوكِ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَتَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَتَسِيرُ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَيَجِدُ بِذَلِكَ مِنْ الْمَزِيدِ فِي إيمَانِهِ مَا لَا يَجِدُهُ أَصْحَابُ تِلْكَ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُمْ لابد أَنْ تَدْعُوَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلَى الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا مَنْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةِ إلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. قَالَ طاوس فِي أَمْرِ النِّسَاءِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَيْلُ النَّفْسِ إلَى النِّسَاءِ عَامٌّ فِي طَبْعِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَقَدْ يُبْتَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى الذُّكْرَانِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ؛ فَيُبْتَلَى بِالْمَيْلِ إلَى المردان وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى اُبْتُلِيَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَلَا يَكَادُ أَنْ يَسْلَمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْفَاحِشَةِ إمَّا فِي سِرِّهِ وَإِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرَدِ وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ أَخْبَارِ الْعُشَّاقِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا الْجِهَادِ لَيْسَ أَمْرًا أَوْجَبَهُ وَحَرَّمَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي طَاعَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حِيلَةَ فِيهِ؛ فَيَصِيرُ بِالْمُجَاهِدَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَأَبُو يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَمِنْ التَّقْوَى أَنْ يَعِفُّ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَظَرٍ بِعَيْنِ وَمِنْ لَفْظٍ بِلِسَانِ وَمِنْ حَرَكَةٍ بِيَدِ وَرِجْلٍ وَمِنْ الصَّبْرِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ شَكْوَى مَا بِهِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. وَأَمَّا الْكِتْمَانُ فَيُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكْتُمَ بَثَّهُ وَأَلَمَهُ فَلَا يَشْكُو إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَمَتَى شَكَا إلَى غَيْرِ اللَّهِ نَقَصَ صَبْرُهُ وَهَذَا أَعْلَى الكتمانين؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَشْكُو مَا بِهِ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِنْ شَكَا ذَلِكَ إلَى طَبِيبٍ يَعْرِفُ طِبَّ الْأَدْيَانِ وَمَضَرَّاتِ النُّفُوسِ وَمَنَافِعَهَا؛ لِيُعَالِجَ نَفْسَهُ بِعِلَاجِ الْإِيمَانِ؛ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفْتِي وَهَذَا حَسَنٌ. وَإِنْ شَكَا إلَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهَذَا حَرَامٌ وَإِنْ شَكَا إلَى غَيْرِهِ لِمَا فِي الشَّكْوَى مِنْ الرَّاحَةِ كَمَا يَشْكُو الْمُصَابُ مُصِيبَتَهُ إلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّمَ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا الِاسْتِعَانَةَ عَلَى مُصِيبَتِهِ فَهَذَا يُنْقِصُ صَبْرَهُ؛ وَلَكِنْ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُحَرَّمُ كَالْمُصَابِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ.
والثَّانِي: أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ مَعَ النَّاسِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ السُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ إذَا سَمِعْت مِثْلَ هَذَا تَحَرَّكَتْ وَتَشَهَّتْ وَتَمَنَّتْ وتتيمت وَالْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى أَوْ سَمِعَ أَوْ تَخَيَّلَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشْتَهِيهِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى الْفِعْلِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِ وَالنِّسَاءُ مَتَى رَأَيْنَ الْبَهَائِمَ تَنْزُو الذُّكُورَ مِنْهَا عَلَى الْإِنَاثِ مِلْنَ إلَى الْبَاءَةِ وَالْمُجَامَعَةِ وَالرَّجُلُ إذَا سَمِعَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَ المردان وَالنِّسَاءِ وَرَأَى ذَلِكَ أَوْ تَخَيَّلَهُ فِي نَفْسِهِ دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ وَإِذَا ذُكِرَ لِلْإِنْسَانِ طَعَامٌ اشْتَهَاهُ وَمَالَ إلَيْهِ وَإِنْ وُصِفَ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَالْغَرِيبُ عَنْ وَطَنِهِ مَتَى ذُكِّرَ بِالْوَطَنِ حَنَّ إلَيْهِ وَكُلُّ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مَحَبَّتُهُ إذَا تَصَوَّرَهُ تَحَرَّكَتْ الْمَحَبَّةُ وَالطَّلَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ؛ إمَّا إلَى وَصْفِهِ وَإِمَّا إلَى مُشَاهَدَتِهِ وَكِلَاهُمَا يَحْصُلُ بِهِ تَخَيُّلٌ فِي النَّفْسِ وَقَدْ يَحْصُلُ التَّخَيُّلُ بِالسَّمَاعِ أَوْ الرُّؤْيَةِ أَوْ الْفِكْرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَإِذَا تَخَيَّلَتْ النَّفْسُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ انْقَلَبَتْ إلَى مَا تَخَيَّلَتْهُ فَتَحَرَّكَتْ دَاعِيَةُ الْمَحَبَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً. وَلِهَذَا تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ إلَى الْحَجِّ إذَا ذُكِرَ الْحِجَازُ أَوْ كَانَ أَوَانُ الْحَجِّ أَوْ رَأَى مَنْ يَذْهَبُ إلَى الْحَجِّ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ وَيَرَاهُ لَمَا تَحَرَّكَ وَلَا حَدَثَ مِنْهُ دَاعِيَةُ قُوَّتِهِ إلَى ذَلِكَ فَتَتَحَرَّكُ بِذِكْرِ الْأَبْرَقِ وَالْأَجْرَعِ وَالْعَلِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْمَنَازِلَ لَمَّا كَانَ ذَاهِبًا إلَى مَحْبُوبِهِ فَصَارَ ذِكْرُهَا يُذَكِّرُهُ بِالْمَحْبُوبِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْمَتَاجِرِ وَالْأَمْوَالِ إذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ بِالْمَكَاسِبِ تَحَرَّكَتْ دَاعِيَتُهُ إلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفُرَجِ وَالتَّنَزُّهِ إذَا رَأَوْا مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ تَحَرَّكُوا إلَيْهِ وَهَذِهِ الدَّوَاعِي كُلُّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ وَالْإِنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُذَكِّرُ بِهِ وَتُحَرِّكُ مَحَبَّتَهُ فَالْمُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ وَالْعِشْقِ إذَا ذَكَرَ مَا بِهِ لِغَيْرِهِ تَحَرَّكَتْ نَفْسُ ذَلِكَ الْغَيْرِ إلَى جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ فَإِذَا تَصَوَّرَتْ جِنْسًا تَحَرَّكَ إلَيْهَا الْمَحْبُوبُ. وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِسَتْرِ الْفَوَاحِشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ» وَقَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عَلَى الذَّنْبِ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيُصْبِحُ يَتَحَدَّثُ بِهِ» فَمَا دَامَ الذَّنْبُ مَسْتُورًا فَعُقُوبَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ خَاصَّةً وَإِذَا ظَهَرَ وَلَمْ يُنْكَرْ كَانَ ضَرَرُهُ عَامًّا فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي ظُهُورِهِ تَحْرِيكٌ لِغَيْرِهِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ إنْشَادَ الْأَشْعَارِ: الْغَزَلِ الرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ النُّفُوسَ إلَى الْفَوَاحِشِ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَنْ يَعِفَّ وَيَكْتُمَ وَيَصْبِرَ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ. وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُونَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ السَّالِكُونَ طَرِيقَ الرُّهْبَانِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَزْهَدُونَ فِي النِّكَاحِ وَفُضُولِ الطَّعَامِ وَالْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَحْمُودٌ؛ لَكِنْ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ لابد أَنْ يَقَعُوا فِي ذُنُوبٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَمَا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَإِرْفَاقِ النِّسَاءِ؛ فَيُبْتَلَوْنَ بِالْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مَا لَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْكَى بَسْطُهَا فِي كِتَابٍ وَعِنْدَهُمْ مِنْ الْفَوَاحِشِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَخِيَارُ مَنْ فِيهِمْ يَمِيلُ إلَى الْأَحْدَاثِ وَالْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ؛ لِمَا يَجِدُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ رَاحَةِ النُّفُوسِ وَلَوْ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ لَاسْتَرَاحُوا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ لَمَّا قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَنَامِ: لِي فِيكُمْ لَطِيفَتَانِ السَّمَاعُ وَصُحْبَةُ الْأَحْدَاثِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَلَّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى إنَّهُمْ لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ لَهُ صَارَ ذَلِكَ مُمْتَزِجًا بِطَرِيقِهِمْ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الشَّاهِدِ مِنْ الرَّغْبَةِ فِيمَا اعْتَادَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ مَا لَا يَجِدُهَا بِدُونِ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقَصَائِدِ مِنْ الشَّوْقِ وَالرَّغْبَةِ وَالنَّشَاطِ مَا لَا يَجِدُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَارُوا فِي شُبْهَةٍ وَشَهْوَةٍ لَمْ يَكْتَفِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ بِوُقُوعِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَفْتِنُهُمْ حَتَّى جَعَلَهُمْ يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ عِبَادَةً كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} الْآيَةَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وَإِذَا وَقَعُوا فِي السَّمَاعِ وَقَعُوا فِيهِ بِشَوْقِ وَرَغْبَةٍ قَوِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ تَامَّةِ وَبَذَلُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. فَقَدْ يَبْذُلُونَ فِيهِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَيَدْخُلُونَ فِي الدِّيَاثَةِ لِأَغْرَاضِهِمْ فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ بِوَلَدِهِ فَيَهَبُهُ لِلشَّيْخِ يَفْعَلُ مَا أَرَادَ هُوَ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ حِوَارًا وَإِنْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ اسْتَأْثَرَ بِهِ الشَّيْخُ دُونَهُمْ وَيَعُدُّ أَهْلُهُ ذَلِكَ بَرَكَةً حَصَلَتْ لَهُ مِنْ الشَّيْخِ وَيَرْتَفِعُ الْحَيَاءُ بَيْنَ أُمِّ الصَّبِيِّ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ. وَإِذَا صَلَّوْا صَلَّوْا صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ يَقُومُونَ إلَيْهَا وَهُمْ كُسَالَى {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا}. فَقَدْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ قَدْ يَزْهَدُونَ فِي بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَجْتَهِدُونَ فِي عِبَادَاتٍ وَأَذْكَارٍ لَكِنْ مَعَ بِدْعَةٍ وَأَفْعَالٍ لَا تَجُوزُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَتِلْكَ الْبِدْعَةُ هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْهُمْ فِي اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مِثَالُهَا مِثَالُ سَفِينَةِ نُوحٍ؛ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. وَهَؤُلَاءِ تَخَلَّفُوا عَنْهَا فَغَرِقُوا بِحُبِّهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَالسَّالِكُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إذَا اُبْتُلُوا بِالذُّنُوبِ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ؛ بَلْ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ عَلَيْهِمْ آصَارًا وَأَغْلَالًا كَمَا كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الرُّهْبَانِ فَإِنَّهُمْ إذَا وَقَعَ أَحَدُهُمْ فِي الذَّنْبِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ شَرَهٍ إلَّا بِبَلَاءِ شَدِيدٍ مِنْ أَجْلِ خُرُوجِهِ عَنْ السُّنَّةِ.
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ السُّلُوكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِبِدْعَةِ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفُجُورِ الْمُتْرَفِينَ قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ إلَّا بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا بِذَلِكَ وَهَذَا يَقَعُ لِبِشْرِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ وَاجْتِنَابُ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ- مِنْ الْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا- إلَّا بِأَكْلِ الْحَشِيشَةِ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: إنَّ أَكْلَهَا يُعِينُهُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْعُلُومِ وَتَصْفِيَةِ الذِّهْنِ حَتَّى يُسَمِّيَهَا بَعْضُهُمْ مَعْدِنَ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَمُحَرِّكَةَ الْعَزْمِ السَّاكِنِ وَكُلُّ هَذَا مِنْ خُدَعِ النَّفْسِ وَمَكْرِ الشَّيْطَانِ بِهَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّهَا لَعَمَى الذِّهْنِ وَيَصِيرُ آكِلُهَا أَبْكَمَ مَجْنُونًا لَا يَعِي مَا يَقُولُ. وَكَذَلِكَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَرَغْبَتَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَحَرَكَتَهُ وَوَجْدَهُ وَشَوْقَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَمُعَاشَرَةِ الشَّاهِدِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ وَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِسَمَاعِ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ وَرُؤْيَةِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّكَاتِ تَتَحَرَّكُ عِنْدَهُمْ مِنْ دَوَاعِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ مَا لَا تَتَحَرَّكُ بِدُونِ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ قَدْ يَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ وَيَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكِبَارِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِهَذَا تَرْتَاضُ نُفُوسُهُمْ وَتَلْتَذُّ بِذَلِكَ لَذَّةً تَصُدُّهَا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْكَبَائِرِ وَتَحْمِلُهَا عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ. وَهَذَا مُسْتَنَدُ كَثِيرٍ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى طَرِيقِهِمْ بِالسَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَأَنْوَاعِهِ. مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو إلَيْهِ بِالدُّفِّ وَالرَّقْص وَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ الشَّبَّابَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِالدُّفِّ وَالْكَفِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِأَذْكَارِ وَاجْتِمَاعٍ وَتَسْبِيحَاتٍ وَقِيَامٍ وَإِنْشَادِ أَشْعَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهِ. وَرُبَّمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِنْ مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ والمردان وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ توبناهم وَقَدْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَحُجُّونَ وَلَا يَصُومُونَ بَلْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ وَيَزْنُونَ؛ فتوبناهم عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا السَّمَاعِ. وَمَا أَمْكَنَ أَحَدَهُمْ اسْتِتَابَتُهُمْ بِغَيْرِ هَذَا. وَقَدْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا أَوْ مُحَرَّمَةٌ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ مَا أَمْكَنَنَا إلَّا هَذَا وَإِنْ لَمْ نَفْعَلْ هَذَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمُحَرَّمِ حَصَلَ الْوُقُوعُ فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ تَحْرِيمًا وَفِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مَا يَزِيدُ إثْمُهُ عَلَى إثْمِ هَذَا الْمُحَرَّمِ الْقَلِيلِ فِي جَنْبِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْكَثِيرِ.
وَيَقُولُونَ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ نَشَاطًا وَقُوَّةً فِي كَثِيرٍ مِنْ الطَّاعَاتِ إذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا حَرَامًا. وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا وَلَا يَفْعَلُهُ. وَهُوَ أَيْضًا يَمْتَنِعُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ إذَا عُوِّضَ بِمَا يُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ وَاقِعَةٌ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ وَجَوَابُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُبِحْ مِنْهُ شَيْئًا لَا لِضَرُورَةِ وَلَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: كَالشَّرَكِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَالظُّلْمِ الْمَحْضِ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تعالى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَبِتَحْرِيمِهَا بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَلَمْ يُبِحْ مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ وَلَا فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلِهَذَا أُنْزِلَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ وَنَفْيُ التَّحْرِيمِ عَمَّا سِوَاهَا؛ فَإِنَّمَا حَرَّمَهُ بَعْدَهَا كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ حَرَّمَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَلَيْسَ تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا.